*فرحات خضر
في مجموعة “واتساب” مغلقة، تجمع صحفيين سوريين من مختلف الانتماءات، لاحظ أحد الأعضاء أن زملاءه الأكبر سناً كثيراً ما ينشرون أخباراً غير دقيقة. قال بثقة: “الصحفيون المخضرمون يقعون أسرع في فخ التضليل.”
لكن بعد أيام قليلة فقط، عاد ليعترف: “الشباب أيضاً لا ينجون. التقنيات الحديثة لم تحمهم كما كنت أظن”.
تجربة شخصية تختزل معضلة أكبر تواجه الإعلام الحديث: من هو أكثر عرضة للخطأ في زمن الطوفان المعلوماتي؟
عند طرح هذه الملاحظة على الدكتورة زاهرة حرب، رئيسة قسم الدراسات العليا في الصحافة بجامعة سيتي سانت جورج بلندن، كانت نظرتها متوازنة.
تؤكد حرب أن الخبرة الطويلة تمنح الصحفي أدوات أفضل لتمييز الأخبار الصحيحة من المضللة.
وتقول: “تراكم التجربة، وفهم السياقات السياسية والتاريخية، يعين الصحفي المخضرم على التريث قبل النشر.”
لكنها لا تتردد في الإشارة إلى أن الحنكة ليست درعاً لا يخترق. فحتى كبار الصحفيين يمكن أن يقعوا ضحية لتقنيات التضليل المتطورة، خاصة تلك التي تتلاعب بالسياقات الحقيقية لتمرير أكاذيب مقنعة.
وترى أن اندفاع الصحفيين الشباب مع سرعة الوسائط الرقمية يجعلهم أكثر عرضة للتسرع، مشددة على أن الحل لا يكمن بالعمر، “بل بالالتزام بمعايير مهنية صارمة، على رأسها التحقق من أكثر من مصدر قبل النشر.”
في حديثه عن المشهد الإعلامي الجديد، يذهب الدكتور زاهر عمرين، أستاذ علوم الإعلام والاتصال بجامعة لندن، إلى تقييم مختلف.
يرى عمرين أن الشباب اكتسبوا خلال السنوات الأخيرة خبرة نوعية في التعامل مع التضليل الإعلامي.
ويقول: “كثافة التعرض للسوشال ميديا، واحتكارها عملياً لنقل الأخبار في مناطق النزاع مثل سوريا، منحت الصحفيين الشباب مهارات تحقق متقدمة لم تكن متوفرة قبل أعوام.”
ويضيف أن “العلاقة اليومية مع المنصات الرقمية جعلت الشباب أكثر قدرة على استخدام أدوات التحقق، من البحث العكسي إلى تحليل الصور والمقاطع المصورة.”
مع ذلك، يحذر عمرين من خطأ شائع بين الصحفيين الأكبر سناً يتمثل في الثقة المفرطة بالمصادر التقليدية، حيث يفترض أن الوسائل المعروفة دائماً دقيقة، رغم أن التضليل قد يتسلل حتى عبر القنوات الدولية الكبرى.
خلال جائحة كورونا، ظهرت الفجوة المهنية بوضوح. كثير من الصحفيين، كباراً وشباباً، نقلوا معلومات مغلوطة بناءً على تصريحات طبية غير متخصصة أو دراسات لم تخضع للمراجعة الكاملة.
فشلت معايير التحقق التقليدية أمام الكم الهائل من الأخبار العلمية، مما عزز أهمية أدوات التدقيق الجديدة، وحذر من مخاطر التسرع دون العودة إلى المصدر الأول للمعلومة.
لم يكن هذا المشهد مقتصراً على أزمة صحية، بل تكرر في النزاعات المسلحة، حيث تداولت وسائل إعلام محترفة صوراً وفيديوهات مضللة لمجرد أن مصدرها بدا موثوقاً في الوهلة الأولى.
تحذر الدكتورة أروى الكعلي، الباحثة والمدربة الإعلامية، من عامل آخر لا يقل خطورة عن التسرع أو قلة المهارة، وهو عامل “الانحياز غير الواعي”.
توضح الكعلي أن بعض الصحفيين ينساقون خلف الأخبار التي تتماشى مع قناعاتهم الشخصية أو السياسية دون تدقيق كافٍ، مما يضعهم في خانة التضليل حتى من دون قصد.
وتقول: “الصحفي الذي لا يفصل بين قناعاته المهنية والشخصية، يفقد تدريجياً القدرة على الشك بالمصادر حتى لو كانت رسائلها مضللة.”
كما تشير إلى خطورة الاعتماد الكامل على المصادر الرسمية، مؤكدة أن “البيئة المهنية التي يترعرع فيها الصحفي هي التي تحدد مدى صلابته أمام سيل المعلومات.”
لكن رغم اختلاف المواقف حول من هو الأكثر عرضة للسقوط: الشاب أم المخضرم، فإن نقطة الالتقاء تبقى واضحة. لا أحد محصن بالكامل. فقط من يمتلك ثقافة التحقق الدائم والشك المنهجي يستطيع النجاة.
يلخص د. عمرين المعادلة: “الصحافة ليست تكرار ما يقال، بل الشك الذكي، والاختبار المستمر للمعلومات قبل تبنيها أو نشرها.”
في زمن تتلون فيه الأكاذيب بألف قناع، لم يعد يكفي أن تكون سريعاً أو خبيراً، بل أن تكون صبوراً ومحققاً بارعاً لا يتوقف عن طرح الأسئلة.
* فرحات خضر صحافي استقصائي سوري متخصص في المصادر المفتوحة وتدقيق الحقائق.