على خلفية رفض شركة الرافدين للشحن في القامشلي، إرسال كتابين يحمل أحدهما اسم كردستان إلى مدينة ديرك/المالكية أقصى شمال شرقي سوريا، كتب مدير دار نشر كردية في 20 آب/أغسطس الماضي، منشوراً على فيسبوك، انتقد فيه تصرف الشركة.
خلال ساعات قليلة تحوّلت المسألة إلى قضية رأي عام، شغلت مواقع التواصل الاجتماعي محلياً لأيام، وسط ردود أفعال يمكن وصف العديد منها بـالحادّة.
أظهر التصاعد السريع للموقف، وبروز خطاب كراهية على فيسبوك، أنه يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي لعب دور كبير في تحويل مواقف حتى لو بدت بسيطة، إلى تهديد محتمل للسلم الأهلي.
ولعل قابلية المجتمع المحلّي المتعدد الإثنيات للخوض في مثل هذه النقاشات والقدرة على تبادل الاتهامات، يحيلنا إلى ما يمكن أن نصفه بإرث طويل من سوء الفهم، وعدم انكشاف الجماعات الوطنية على بعضها، واحتفاظ كل منها بسرديتها الخاصّة وإعادة إنتاجها.
خلال العقد الأخير انصبّ نشاط العديد من المنظّمات في هذه المنطقة، على إقامة ورش وجلسات تضم مشاركين من خلفيات إثنية مختلفة، وبمعزل عن مردود هذه النشاطات، فإنها مثّلت فرصة للتلاقي وتبادل الآراء، وبالمثل عززت بعض وسائل الإعلام أهمية هذا المسار، وضمّن بعضها اللغات والثقافات والمناسبات الخاصة بكل إثنية، بصورة ساهمت في المزيد من التعارف بين سكان المنطقة، والتعرف على هويّاتهم الثقافية.
لكن هل تبدو هذه الجهود كافية؟ وهل لدى المجتمعات المحلية إمكانية إنتاج حلول تراعي حالة التنوّع الإثني والسياسي والثقافي، والقدرة تالياً على الحؤول دون حصول مشكلات ذات طابع قومي أو ديني؟
في هذه الأثناء تبرز أهمية مناقشة آليات يمكن أن تساهم في الحفاظ على السلم الأهلي، وعدم تصاعد خطاب الكراهية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. كما تبرز أهمية الاستفادة من تجارب مجتمعات ودول أخرى، إضافة إلى الجهود الدولية المستمرة لمواجهة خطر هذه الظاهرة، لتحصين مجتمعنا منها.
منهجية
تسعى هذه الورقة إلى وضع تصور حول كيفية ظهور خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي على خلفية الموقف المذكور أعلاه تحديداً، والذي كاد أن ينجم عنه تهديدٌ للسلم الأهلي في منطقة تتميز بالتنوع الإثني.
تعتمد الورقة، على عرض المنشورات التي تمّ تداولها من جانب الأطراف الرئيسية، وتحليل مضامينها، مع إرفاق نماذج عما تداولته حسابات شخصية وصفحات عامة، أو تداوله صحفيون ونشطاء وكتّاب، فضلاً عن الردود الصادرة عن مؤسسات السلطات المحلية.
تتضمن الورقة، عرضاً لمفهوم خطاب الكراهية، وما يتعلق به من مساحة تداخل مع مفهوم حرية التعبير عن الرأي، وكيفية التمييز بينهما، وكيف يرى الخبراء الحقوقيون، أن التوجه نحو الحد من خطاب الكراهية قد يحمل معه تهديداً لحرية التعبير عن الرأي الذي يعد حقاً تأسيسياً، ولا يمكن للإنسان ممارسة العديد من حقوقه الأخرى دونه.
اتصالاً بذلك، كان لابد من عرض السياق العام للموقف، إلى جانب عرض خلفية تاريخية توضح نماذج حوادث ومواقف سابقة، في هذه المنطقة، ومن ثم محاولة تحديد جذور خطاب الكراهية الظاهر على خلفية هذا الموقف، وتالياً الوصول إلى مقترحات وتوصيات، وربما حلول ممكنة، لمواجهة خطاب الكراهية الذي قد يظهر في حالات أخرى مستقبلاً.
سوريا المصغرة
يتكثّف في مناطق شمال شرقي سوريا، التي تقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية، تواجد إثنيات مختلفة، ويتراوح حجم إحداها من منطقة إلى أخرى، فالعرب والكرد والسريان الآشوريين هم المجموعات الإثنية الأبرز، تليها جماعات أقل حضوراً بكثير مثل الأرمن والشيشان والتركمان والشركس، وإلى جانب المسلمين والمسيحيين ينطوي الحضور الديني على وجود الإيزيديين.
هذه اللوحة الاجتماعية المركّبة بالرغم من أنها مصدر قوة من نواحي مختلفة، لكنها في المقابل تخفي حساسيات غير مرئية، وقد تكون خاصرة رخوة، كنتيجة لضعف جهود الاشتغال على تكوين هوية وطنية جامعة، إضافة إلى اتباع الأنظمة المتعاقبة على سوريا، منذ عام 1958 فصاعداً سياسات “زبائنية” تقوم على أساس تقوية الحضور العربي، وتهميش الحضور الكردي، وإنكار وجوده، إضافةً إلى حظر أشكال التمثيل السياسي السرياني الآشوري، وقصره على الأدوار الروحية للكنائس ذات الحضور الوازن.
تبدّلت الأحوال بعد انكفاء سلطة حزب البعث والحكومة السورية مطلع عام 2012، وسيطرة الإدارة الذاتية، لتحظى الثقافتين الكردية والسريانية بفرصة للانتعاش، وإعادة التواصل بين مكونات المنطقة خارج الحواجز والأطر المرسومة طوال الفترات السابقة، لكن بدا أن التخلّص من عوالق الماضي ليس سهلاً، ذلك أن حذر المكونات تجاه بعضها، بقي سمة غالبة.
راهناً، تعيش المنطقة حالة استقرار هش، جراء ما تواجهه من تحدّيات خارجيّة، تتمثل في غارات تركية متكررة، أسفرت خلال الأشهر القليلة الماضية عن تدمير بنى تحتية، ومنشآت حيوية، ومصادر للطاقة، وتسببت بأضرار بالغة طالت سبل عيش السكان، كما تشهد المنطقة عمليات قصف متكررة من جانب الميليشيات الإيرانية على مواقع القوات الأميركية، فضلاً عن الهجمات التي تشنها ميليشيا “الدفاع الوطني” رفقة مجاميع عشائرية، إلى جانب ما تنفذه بعض خلايا تنظيم الدولة “داعش” أيضاً، وما يخلقه كل ذلك من حالة عدم استقرار، وكانت الأحداث التي شهدها ريف دير الزور خلال آب/أغسطس 2023. من مواجهات بين قوات سوريا الديمقراطية، ومقاتلين عشائريين يقودهم إبراهيم الهفل، أحد شيوخ قبيلة العكيدات، مثالاً على كيفية استخدام التضليل وخطاب الكراهية لتصوير الحدث، عبر منصات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، على أنه صراع عربي-كردي.
نماذج لمشكلات سابقة
لعبت المجازر التي تعرض لها الأرمن والسريان الآشوريين بأوامر من الدولة العثمانية خلال السنوات الأخيرة من عمرها، دوراً مؤثّراً في طبيعة العلاقة بين الأرمن والسريان الآشوريين وجوارهم المسلم خصوصاً الكرد، وبالرغم من ظهور تعاون بين النخب القومية الكردية والأرمنية بعد نحو عقد على وقوع تلك المجازر، إلّا أن جزءاً من المجتمعين الأرمني والسرياني الآشوري ما يزال يحتفظ بذاكرة نشطة تناقلتها الأجيال حول ما جرى قبل أكثر من قرن.
في مرحلة لاحقة سعت فرنسا منذ أن بسطت سلطتها على منطقة الجزيرة (1920-1921) إلى تشجيع الاستقرار بين المكونات السريانية والكردية والعربية تبعاً لمصالحها، واتبعت لأجل ذلك سياسة تشييد المدن مثل الحسكة والقامشلي والدرباسية، فضمّت معظم المدن المستحدثة الجماعات الإثنية، وإن بدرجات متفاوتة، ورغم هذه السياسة الفرنسية في الجزيرة العليا، إلّا أن الانقسام حول مشروع فرنسا اتخذ طابعاً سياسياً أكثر مما يمكن عدّه انقساماً ذي طبيعةٍ إثنية بين مؤيّدين لها، وآخرين أيّدوا الحكم الوطني.
لم يراعِ الحكم الوطني منذ عام 1946 الخصوصيات الثقافية في منطقة الجزيرة وكوباني وعفرين. لاحقاً ومع فترة الوحدة السورية المصرية (1958 -1961) طالت عمليات القمع النشطاء الكرد المطالبين بحقوقهم الوطنية، فيما لم يحظَ السريان الآشوريين بحقوقهم الوطنية أيضاً. هذا الواقع تكرّس بشكل أعمق في ظل حكم البعث المديد منذ عام 1963، الذي عمد إلى وضع حواجز بين المكونات، وقام باضطهاد التعبيرات الثقافية والسياسية والحزبية الكردية، والسريانية الآشورية كذلك، رغم منح بعض الامتيازات الثقافية الطفيفة للسريان مثل تدريس اللغة السريانية في الإطار الكنسيّ، والمدارس العائدة للكنائس.
عدا حالات قليلة واستثنائية، لم تشهد المناطق المتداخلة إثنياً في شمال شرقي سوريا، أيّ صدامات ذات طابع قومي. من بين تلك الحالات التي شهدتها المنطقة ما عرف محلياً بـ”طوشة عامودا” والأحداث التي تبعتها، التي اقتضت تدخّل فرنسا عام 1937، إذ إن الحادثة التي بدت أنها خلاف سرياني – كردي، كانت في الأساس خلافاً بين مؤيّدي فرنسا وموالي الحكم الوطني. كذلك شهدت المنطقة عام 2003 اندلاع مشكلات في حوض الخابور بين الآشوريين وجيرانهم العرب، تلتها الانتفاضة الكردية عام 2004 والتي تمّ وصفها بأنها محاولة لبث “فتنة” قومية، حيث سعت السلطات الحاكمة في دمشق إلى تأليب بعض أبناء العشائر العربية في الحسكة والقامشلي ورأس العين على الكرد. كما أن المشكلات ذات الطابع الشخصي بين أفراد من المكونات في مناطق مثل ديريك/المالكية جرى حلّ معظمها من قبل وجهاء اجتماعيين، ورجال دين مسيحيين وعلماء دين كرد، وأحزاب سياسية محلية، دون أن تمتد لتصبح مشكلات ذات طابع قوميّ.
ضمن هذا السياق التاريخي الموجز، يمكن الإشارة إلى الصورة النمطية التي برزت عبر وسائل التواصل الاجتماعي كردود على موقف شركة الرافدين، من قبيل وصمهم “أحفاد البعث” أو أبناء “ميشيل عفلق”، والتي تختصر في مضمونها صورة المكون السرياني الآشوري، كموالين مستلبين لإيديولوجية حزب البعث، والغالب أن جذور هذه الصورة النمطية، تعود لفترة سيطرة حزب البعث على البلاد، الذي مارس سياسات تمييزية بحق المكونات السورية، وحاول تعميق الشروخ بينها، حيث تتواتر روايات كردية على مستوى الشارع مفادها أن نظام البعث منح أبناء المكون السرياني الآشوري وغيرهم من المسيحيين في المنطقة، “كوتا” على مستوى المناصب الإدارية في محافظة الحسكة ومدنها، الأمر الذي ضمن لهم نوعاً من الحظوة لدى السلطة، في حين كان الكرد مغيبين، حتى في مدن ومناطق شكلوا فيها غالبية سكانية.
تفصيل الموقف
بدأ الموقف، مع منشور لمدير دار نقش الكردية، عبدالله شيخو ، الذي قال على حسابه في موقع فيسبوك مساء 20 آب/ أغسطس 2024: “رفضت شركة الرافدين اليوم شحن هذين الكتابين من قامشلو إلى ديرك لأن أحدها يحمل اسم كردستان. المفارقة أن ثقافة ولغة وعقيدة الآشوريين والسريان (أصحاب شركة الرافدين) لم تُحتَرم ولم يُعتَرف بها إلا بعدَ أن أدار الكردستانيون شؤون هذه البلاد”.
بتحليل المنشور نجد أنه بعد تحدثه عن امتناع شركة الرافدين عن إرسال كتابين “لأن أحدها يحمل اسم كردستان”، أشار شيخو، بوضوح في الجزء الثاني من منشوره إلى الانتماء القومي والديني لأصحاب الشركة، وهو ما نقل الموقف من كونه خلافاً بينه وبين الشركة إلى ساحة ذات خلفيات وأبعاد سياسية.
ويفهم من المنشور أيضاً أنه عدّ رفض نقل الكتاب، عدم احترام أو انتقاصاً للثقافة الكردية من جانب الشركة.
ومن الواضح أن منشوره يتضمن رأياً حاداً، لكن لا يمكن تصنيفه كخطاب كراهية، إلا أن التعليقات التي وردت على المنشور تضمنت اتهامات لإدارة الشركة بممارسة العنصرية، إلى جانب ورود صورة نمطية من قبيل “التقنع بـقناع البعثيين” و”شركة بعثية”.
الملاحظ أن العديد ممن علقوا على المنشور كانوا من الصحفيين والناشطين في الشأن العام، وخلال ساعات شارك أكثر من 14 حساباً شخصياً من أصدقاء “شيخو” منشوره في سياق تضامني دون وجود خطاب كراهية في منشوراتهم، عدا حساب واحد قال في منشور باللغة الكردية ما معناه: “لم ننتظر يوماً من أولاد ميشيل عفلق وأيديولوجيته المتطرفة أي عمل محمود”، كما أن حساباً عاماً يتابعه عشرات الآلاف، شارك منشور “شيخو”، ودعا إلى مقاطعة الشركة بعد أن وصفها بـ”العنصرية”.
أظهر الرصد أن انتشار الموقف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بقي محدوداً نسبياً، خلال اليوم الأول، وانحصر عبر منشورات خلا معظمها من خطاب كراهية، لكن التعليقات على هذه المنشورات تضمنت استخداماً لصورة نمطية مكررة، إضافة إلى اتهامات للشركة بالعنصرية.
في اليوم التالي، لدى ظهوره على نشرة فضائية رووداو الكردية، وصف “شيخو” رفض الشركة نقل الكتابين، بأنه ناجمٌ عن “ثقافة بعثية تركت أثرها في عقول وقلوب البعض”، ودعا إلى مقاطعة شعبية لجميع الشركات التي تمارس العنصرية، كما دعا إلى سن قانون لمواجهتها.
ويفهم من اللقاء أن اعتراض “شيخو” كان ضد فعل تمييزي تعرض له من جانب الشركة، ذلك أن نقل الكتب خدمة توفرها الشركة للعموم، ولكنها تعاملت معه بشكل تمييزي، ورفضت نقل الكتاب بسبب انتمائه كفرد، للقومية والثقافة الكردية.
ورغم أن “شيخو” أكد أنه لا يود أن يسلك المسار القانوني حتى لا تتحول القضية إلى “مثار خلاف بين الكرد وغيرهم من المكونات”، إلا أنه كرر خلال مقابلته مسألة الانتماء القومي والديني لمالكي الشركة، ما ساهم في نقل الموقف مجدداً إلى ساحة ذات خلفيات وأبعاد سياسية.
اللافت أن الفضائية لم تلتزم بمعيار التوازن في معالجتها للحادثة، إذ تستدعي التغطية المهنية، أن تفرد الوسيلة الإعلامية المساحة ذاتها من الوقت، لإظهار آراء مختلف الأطراف المعنية خاصة في القضايا ذات الطابع الإشكالي، وهو ما كان يفرض عليها أن تبادر إلى التواصل مع الشركة، وأن تستفسر عن أسباب المشكلة، وأن توضح للجمهور رد الشركة حتى وإن اقتصر على رفض التعليق على الموقف.
كما بدا الانحياز لرواية الضيف – طرف واحد – واضحاً في أسئلة مقدم النشرة، من حيث تبني روايته حول الموقف على أنها حقيقة، ولم تتضمن المقابلة أي أسئلة تشكيكية، أو أي محاولة من مقدم النشرة لتمثيل موقف الطرف الغائب رمزياً، أثناء استيضاح الحقائق.
ولا يصح اتهام الفضائية باستخدام خطاب كراهية أو التحريض خلال معالجتها الحدث، إلا أن المقابلة ساهمت في انتشار الموقف بشكل أوسع على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين عادت الاتهامات بممارسة العنصرية من جانب الشركة، إضافة إلى استخدام الصورة النمطية ذاتها، في التعليقات على اللقاء بعد نشره عبر حساب الفضائية على موقع فيسبوك، وتبين أنه مع ورد تعليقات حثت على التهدئة، كانت هناك تعليقات محرضة.
في هذا السياق كان من اللافت أن رئيس أحد الأحزاب السياسية في الإدارة الذاتية، نشر في وقت مبكر من ذات اليوم، عبر حسابه في فيسبوك منشوراً، اتهم فيه الآشوريين السريان بـ”التطرف” نحو المكون الكردي على خلفية الموقف، وقال: “نحن حمينا المنطقة بجميع مكوناتها وكنتم ستنقرضون على يد الإرهاب الداعشي”، ودعا الإدارة الذاتية إلى إيقاف ترخيص شركة الشحن لحين تقديم اعتذار. إلا أنه عدل منشوره بعد ساعات ليصبح: “كنتم ستتعرضون لأبشع الجرائم على يد الإرهاب الداعشي”، كما عاد وتراجع بعد ذلك عن التعميم على الآشوريين السريان، في رده على أحد التعليقات، لكن من دون أن يعدل منشوره.
في اليوم التالي 22 آب/أغسطس، أصدرت شركة الرافدين بياناً حول الموقف نفت فيه “اتباع سياسات عنصرية خلال تقديم الخدمات”، وقالت إنها شركة “تخضع لقوانين النقل العام ومن ضمنها قوانين تمنع نقل الكتب أياً كانت مضامينها أو محتواها”، كما أعربت عن رفضها لما وصفته بـ”خطاب الكراهية أو التحريض” الذي تتعرض له.
وبعد ساعة من صدور بيان شركة الرافدين، نشر عدد من الحسابات الشخصية، والصفحات العامة، التي يتابع بعضها عشرات الآلاف، محتوى تضمن إما صورة نمطية تجاه السريان الآشوريين أو تحريضاً على الشركة ورد فيها: “يرجى من كل كوردي شريف بطرد شركة الرافدين من قامشلو”.
بعد صدور بيان الشركة، علق “شيخو” معرباً عن رفضه للبيان، ونفى صحة ما قالته الشركة حول عدم تقديمها خدمة شحن الكتب، وأرفق مع منشوره إشعاراً قال إنه لشحن دفعة كتب سابقة، كما جدد مطالبته للشركة بتقديم اعتذار، وذكر أيضاً: “أتمنى أن يكون ما أشاركه اليوم آخر شيء أشاركه لأني لا أريد لهذا الموضوع أن يأخذ مجرى يفرّق بين مكوّنات المنطقة التي أعيش فيها وأحبّها”.
خلال هذا اليوم، توسع انتشار الموقف عبر موقع فيسبوك بشكل أكبر، خصوصاً أن صحفيين نقلوا منشورات عن الموقف، متبنين رأي “شيخو” حتى قبل صدور بيان الشركة، ودون إفساح مساحة لنقل رأي الطرف الآخر.
ولاحظ فريق التقرير بدءاً من صباح 22 وحتى مساء 25 آب/أغسطس 2024، وصول التفاعل حول الموقف على موقع فيسبوك إلى مستويات عالية، ليتراجع بعدها بشكل واضح. وخلال هذه الفترة، أظهر الرصد العديد من النقاط، منها:
– انتشرت أنباء حول إغلاق مكاتب شركة الرافدين في الحسكة، على خلفية الموقف، لكن صحفيين تداولوا منشورات قالت إن الأسباب مرتبطة بـ”عدم دفع الشركة لرسومها”. فيما نشر صحفيون ونشطاء عبر حساباتهم أنباء إغلاق مكاتب الشركة في القامشلي والحسكة، دون التحقق من صحتها.
– تضمنت منشورات العديد من الصفحات العامة، التي يتابع بعضها عشرات الآلاف، تبريراً لإغلاق مكاتب الشركة، رغم أن خبر الإغلاق كان مستنداً إلى مبالغة وتضليل، ذلك أن مكاتب الشركة بقيت مفتوحة، على الأقل، في القامشلي.
– لم يظهر البحث أن وسائل إعلام محلية نشرت ما يوضح حقيقة إغلاق مكتب الشركة في الحسكة، بالاستناد إلى مصادر رسمية، أو القائمين على الشركة، لوضع حد للشائعات وتضارب المعلومات. كما أظهر الرصد أن العديد من وسائل الإعلام المحلية، وخاصة المقربة من الإدارة الذاتية، لم تغطِ ما جرى برمته.
– أظهر الرصد عدم تطرق أي أطراف سياسية من الإدارة الذاتية أو خارجها إلى المسألة لا سلباً ولا إيجاباً باستثناء شخصية سياسية، أشير إلى ردها أعلاه.
– أظهر البحث أن منظمات المجتمع المدني في المنطقة، لم تبدِ أي اهتمام أو رد فعل تجاه الموقف.
– صدر بيان اللجنة المكلفة بالتحقيق في الموقف من جانب إدارة النقل التابعة للإدارة الذاتية، مساء 23 آب/أغسطس، وعده سوء تفاهم بين الطرفين.
– سعى نشطاء وفاعلون في الشأن العام من الكرد والآشوريين السريان إلى تهدئة الأجواء عبر منشوراتهم ومواجهة التحريض، بينما لم تخلو منشورات كتاب وفاعلين في الشأن العام من كلا المكونين، من استخدام التعميم أو التحريض خلال تفاعلهم مع الموقف، في حين طالب البعض حركة الشبيبة الثورية (جوانين شورشكر) التي يرتبط اسمها بأعمال عنف، بالتحرك.
– سعت مواقع وصفحات موالية للحكومة السورية، إلى استغلال الموقف لإثارة مزيد من التحريض من خلال نشر معلومات مضللة .
– حملت معظم المجموعات العامة التي حرضت في منشوراتها ضد الشركة أو ضد الآشوريين السريان أسماء كردية، فيما نشرت صفحات عامة بأسماء آشورية منشورات حملت تعميماً، واتهامات بالعنصرية واستفزازاً للجمهور الكردي.
– ساهم تقرير “اللجنة المكلّفة من قبل الإدارة الذاتية”، وما كتبه مدير دار “نقش” عبد الله شيخو، على صفحته الشخصية في فيسبوك، بعد صدور بيان إدارة الشركة، في تراجع الزخم حول الموضوع وتوقف جزئي لحملات الشحن والاستقطاب القومي.
– أظهر الرصد أن مكتب الاتحاد النسائي السرياني بمدينة الحسكة، تعرض مساء 24 آب/أغسطس، لاعتداءٍ اقتصرت أضراره على الجانب المادي، ولم تظهر أيّ تحقيقات من مصادر رسمية أو تقارير صحفية مستقلة ما إذا كان الاعتداء ناجماً عن تأثر فاعليه بالتحريض المتصاعد عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل ذلك بأيام، أو أن أطرافاً أخرى تقف وراء الحادثة.
ما هو خطاب الكراهية؟ ومتى نقع في المحظور؟
أظهرت حوادث تاريخية في العديد من الدول، وفي مرات عدة، كيف يهدد خطاب الكراهية القيم الديمقراطية والتسامح والاستقرار الاجتماعي في بلدان تتمتع بأنظمة حكم ديمقراطي، ولكنه قد يؤدي إلى مآسي إنسانية، بما في ذلك الإبادة الجماعية، في بلدان تعاني من أنظمة مستبدة وأزمات سياسية وحروب أهلية.
لذا ليس من المستبعد أن تشكل مواقف مشابهة كالتي نتناولها في تقريرنا، تهديداً مستقبلياً لمجتمعنا، فمواجهة التحديات التي أفرزها خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي باتت حاجة عالمية، خاصة وأن هذه المنصات غيرت من مفهوم التواصل تغييراً ثورياً، إذ يمكن لأي محتوى أن يصل إلى نطاق عالمي في زمن قياسي. وقد أظهرت دراسة علمية أن “المحتوى الذي يتضمن خطاب كراهية، ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمدى أبعد، ونطاق أوسع، وبمعدل أسرع، وله إمكانية وصول أكبر من غيره. “
وبينما تستمر جهود منظمات دولية مستقلة، إضافة إلى الأمم المتحدة، للتعامل مع تحديات خطاب الكراهية، يبدو أن الوصول إلى تعريف موحد له، تحدياً في ذاته، فهو “ لا يزال مصطلحاً غير واضح، خاصة في الاستخدام العام له من قبل الإعلام والجمهور.
لكن ضمن هذا السياق، تتقاطع العديد من التعريفات المعتبرة حول خطاب الكراهية، بما فيها التعريف الذي تتبناه استراتيجية وخطة عمل الأمم المتحدة بشأن خطاب الكراهية، حول عدة محددات تميزه:
أولاً: هو تعبير علني عن الكراهية، يكون تمييزي أو احتقاري، تجاه فرد أو جماعة مستضعفة، كأقلية أو فئة اجتماعية أو غيرها.
ثانياً: يبنى دائماً على صفة جماعية، كالانتماء إلى عرق، أو ديانة، أو جنس، أو غيره.
ثالثاً: له أشكال عديدة مثل النصوص والصور أو الرسوم المتحركة أو الإيماءات أو غيرها.
رابعاً: قد يشجع على العنف أو العداء أو التمييز.
لكن من المهم الإدراك أن انتقاد الآخر بسبب أفكاره وتصرّفاته لا يندرج حكماً تحت ”خطاب الكراهية“.
وهنا قد نحتاج للتذكير مجدداً، بأن الموقف الذي نتناوله في هذا التقرير، تضمن أولاً اتهاماً لشركة الشحن بالكراهية والتمييز العنصري، في حين برزت عبر وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً، نماذج من صور نمطية وتحريض لفظي. وإذا ما أردنا أن نعرف أو أن نحكم على موقف الشركة من كونه تمييزاً عنصرياً بحق مدير دار النشر الكردية من عدمه، فإننا واستناداً إلى تجارب دول متقدمة قانونياً في مجال مواجهة التمييز والعنصرية، سنكون في حاجة إلى محاكم متخصصة في قضايا التمييز، لا يمكن توفرها في الوقت الحالي على الأقل.
لكن على مستوى خطاب الكراهية الذي انتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فمن الواضح أنه يندرج تحت مستوى خطاب الكراهية القانوني، تبعاً للتصنيف الذي تتبناه منظمة المادة 19 الدولية المستقلة، وهو خطاب ناتج عن الصور النمطية أو التحيزات والتعليقات غير اللائقة من قبل رواد مواقع وسائل التواصل الاجتماعي.
ورغم أن مثل هذا المستوى من خطاب الكراهية قد يثير المخاوف بشأن عدم التسامح إلا أن المخاوف من التعدي على حق الحرية في التعبير، الذي ينظر إليه كأساس لبناء المعرفة في المجتمعات الديمقراطية ، بما يتيحه من مساحة لتبادل الآراء والتجارب والأفكار، يعد أحد المبررات التي تستند إليها الدراسات وتجارب العديد من الدول الأوروبية في وجوب حماية هذا المستوى من الخطاب بموجب المادة 19 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
لكنه في المقابل، ومن منطلق أنه لا يمكن الاستهانة بتأثيرات خطاب الكراهية مستقبلاً، أياً كان مستواه، يتوجب توفر تدابير ومداخل شاملة لمواجهته، كأن تضطلع الأحزاب والتيارات السياسية بواجباتها في حماية السلم الأهلي المبني على نبذ خطاب الكراهية، على المستوى السياسي مثلاً، وأن يتم تعزيز قدرات الصحفيين من أجل التعرف على خطاب الكراهية ومواجهته، على المستوى الإعلامي، كما يمكن تفعيل دور التعليم في التنشئة على القيم المدنية بما يعزز الإدراك الإيجابي للآخر ،على المستوى التعليمي، فضلاً عن إشراك المجتمع المدني في تقديم مبادرات ونشاطات تعزز قيم المساواة ودعم الحوار والتعايش السلمي وقبول الاختلاف بين الجماعات المتنوعة على المستوى الاجتماعي.
خلاصات
– تمتلك وسائل التواصل الاجتماعي القدرة على تحويل أي موقف أو مشكلة صغيرة إلى قضية رأي عام، وقد تؤدي إلى اختلال ميزان السلم الأهلي، لذا تبرز الحاجة إلى محو الأمية الإعلامية لدى فئة واسعة من الجمهور.
– أظهر الموقف أهمية أدوار روّاد وناشطي مواقع التواصل الاجتماعي وقدرتهم على اختلاق قضايا تمس مستقبل المكوّنات وحالة السلم الأهلي الراهنة.
– لدى شريحة من أبناء المنطقة، قابلية للدخول في نوبات كراهية غير مبررة ما ينبه إلى وجود خلل في ميزان العلاقات، وإمكانية أن تتحوّل أي مواقف إلى قضايا رأي عام، يتداخل فيها الشخصي بالعام، واستحداث “مظلوميات” غير واقعية لدى كل الأطراف.
– لم تتوفر دلائل على وجود حملات ممنهجة للتحريض على الكراهية من جانب الأطراف الرئيسية، عدا محاولة صفحات ومواقع محدودة لاستغلال الموقف، انطلاقاً من خصومة سياسية.
– إن الأسباب والدوافع وراء ظهور خطاب الكراهية كانت تتراوح بين عدم إدراك مخاطر خطاب الكراهية ومدى حساسية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة لمناقشة قضايا إشكالية بلغة مشحونة، وبين استخدام صور نمطية موروثة من فترات وأحداث تاريخية سابقة.
– لم تساهم وسائل الإعلام المحلية بفعالية في الحد من تفاقم الموقف، إذ تحاشى بعضها تغطيته، فيما حاولت أخرى نقل مستجداته مع آراء الأطراف الرئيسية بحيادية، لكن غاب عن تغطيتها تسليط الضوء على المخاطر التي يمكنها تهديد السلم الأهلي في المنطقة جراء خطاب الكراهية الناجم عن مثل هذه المواقف.
– برزت ردود فعل إيجابية لتطويق الموقف ومواجهة خطاب الكراهية الناجم عنه، لكنها اقتصرت على عدد محدود من الصحفيين والنشطاء المدنيين والفاعلين في الشأن العام، كما لم ترصد أي تصريحات لشخصيات أو أطراف سياسية تستنكر الانجرار لاستخدام خطاب الكراهية بين المكونات في المنطقة.
– بدا واضحاً أن مستوى خطاب الكراهية لم يتعد خطاب الكراهية القانوني الذي يتضمن ذلك الخطاب الناتج عن الصور النمطية أو التحيزات والتعليقات غير اللائقة، وهو خطاب قد لا يحتاج إلى منع، بقدر ما يستوجب معالجته على مستويات متعددة كالتعليم والإعلام والمجتمع المدني والمستوى السياسي.
– إن قلة الأصوات المؤثّرة والمنحازة لأفكار السلم الأهلي والحفاظ على حالة التعايش والتماسك المجتمعي والقادرة على بلورة وجهة نظر واضحة تجاه ما حصل، يدفع باتجاه تعدد الروايات والانطباعات وإلى بروز أشكال من التفاعل السلبي.
أنجز هذه الورقة فريق True Platform بالتعاون مع موقع 963 + في إطار مذكرة تفاهم لتبادل نشر المحتوى.
قائمة بالمراجع:
1 – تواصل – مناهضة خطاب الكراهية، خطابات التحريض وحرية التعبير “الحدود الفاصلة”، 26 أيلول/سبتمبر 2023، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024 (https://2u.pw/VVNE3DIa ).
2 – تواصل – مناهضة خطاب الكراهية، توصية السياسة العامة رقم 15 للجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب: بشأن مكافحة خطاب الكراهية، 25 أيلول/سبتمبر 2023، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024 (https://2u.pw/VVNE3DIa ).
3 – صندوق الأمم المتحدة للسكان، خطاب الكراهية يسمم العقول، 18 حزيران/يونيو 2024، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024(https://2u.pw/Xir2KWg4 ).
4 – تواصل – مناهضة خطاب الكراهية، خطابات التحريض وحرية التعبير “الحدود الفاصلة”،26 أيلول/سبتمبر 2023، . آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024 (https://2u.pw/VVNE3DIa).
5 – UN، UN expert warns combat against violent extremism could be used as ‘excuse’ to curb free speech، 3 May 2016, Last visit: October 6, 2024 (https://2u.pw/plaNoaJQ).
6 – سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، سوريا: نماذج عن مواد مضللة انتشرت خلال أحداث دير الزور، 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، (https://2u.pw/N8tltiEt).
7 – مركز آتون للدراسات، الكُرد والإبادة الأرمنية الكبرى (1915 -1917) .. محطات ومواقف، 29/تشرين الأول/أكتوبر 2023، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، (https://2u.pw/G82MOdfL).
8 – موقع الأمم المتحدة، خطاب الكراهية – دور الأمم المتحدة، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، (https://2u.pw/evG7e4mh ).
9 – المصدر ذاته.
10 – المصدر ذاته.
11 – مسار، مدخل لمناهضة خطاب الكراهية، تشرين الثاني/نوفمبر 2022. آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، (https://2u.pw/2qA79IR ).
12 – موقع الأمم المتحدة، خطاب الكراهية – دور الأمم المتحدة، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024((https://www.un.org/ar/hate-speech/united-nations-and-hate-speech/role-of-the-un )).
13 – المصدر ذاته.
14 – المصدر ذاته.
15 – أونتاريو، لجنة حقوق الإنسان لجنة حقوق الإنسان في أونتاريو، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024،(https://2u.pw/hxybFZ).
16 – منصة Handbook Germany، التمييز، 23 أيار/مايو 2024. آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، (https://2u.pw/ExhUQUGQ).
17 – المصدر ذاته.
18 – موقع خطاب الكراهية/منظمة المادة 19، متى يمكن تقييد الحقّ في حريّة التعبير؟، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024.0،( https://2u.pw/Df2Pt2sc).
19 – المجلس الوطني لحقوق الإنسان-المغرب، حرية الرأي والتعبير، التظاهر وتأسيس الجمعيات، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، (https://2u.pw/X2qLV3Zo).
20 – موقع الأمم المتحدة، خطاب الكراهية – دور الأمم المتحدة، آخر زيارة بتاريخ 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 ، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، (https://2u.pw/evG7e4mh).
21 – دراسات في حقوق الإنسان، خطاب الكراهية وحقوق الإنسان، آخر زيارة 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، (https://2u.pw/jRVLw52L).